صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (41)
ولي العهد يستسلم ويتنازل
بدأ أبو جعفر المنصور يضيق الخناق علي عيسي بن موسي ليتنازل عن ولاية العهد للمهدي بن المنصور .. وكان عيسي يقاوم قدر المستطاع ويقول لعمه الخليفة: للناس في عنقي بيعة وأنا لن أتحلل منها .. فقرر المنصور أن يحله منها رغم أنفه.
وكان عيسي يجلس في مجلس الخلافة علي يمين المنصور لأنه ولي العهد، ومحمد المهدي علي يسار أبيه ،فجعل المنصور إبنه علي اليمين فرفض عيسي أن يجلس علي اليسار وفضل أن يجلس بجوار المهدي ناحية اليمين فأمر المنصور حراسه بعد ذلك بالتباطؤ في إدخال عيسي .. فكان الأمراء من البيت العباسي والولاة وكبار رجال الدولة يدخلون علي المنصور وولي العهد واقف بالباب في انتظار الإذن !! وإذا دخل وجد معاملة جافة من الحراس تصل إلي حد “الجليطة ” في معظم الحالات.
طبعا كل ذلك كان بأمر أبي جعفر المنصور .. ورغم كل ذلك لم يستسلم عيسي إلي أن جاءت رسالة تهديد صريحة لموسي بن عيسي أن حياة أبنه في خطر، ثم أخذ المنصور يضع أسرة عيسي كلها في مرمي القلق والخطر فبدأ عيسي يشعر أن حياة إبنه في خطر كما أدرك الابن أن عدم تنازل أبيه عن ولاية العهد قد يدفع المنصور لقتل عيسي.
وعندما أيقن عيسي أنه لا طاقة له بجبروت عمه وأنه من الممكن أن يقتل ولده بل يقتله هو أيضا إذا لزم الأمر، رفع الراية البيضاء وتنازل عن ولاية العهد مقابل 10 مليون درهم وبعض المزايا العينية الأخري .، وأصبح محمد المهدي وليا لعهد أبيه وتراجع عيسي بن موسي ليصبح ولي ولي عهد، وعرض نفسه لسخرية الناس الذين قالوا هذا الذي كان غدا فأصبح بعد غد ! يقصدون أنه كان الخليفة المنتظر فأصبح ولي عهد الخليفة المقبل.
وكان عيسي بن موسي معذورا فصراعه مع عمه الجبار أبي جعفر كان محسوما للخليفة بقوة السلطان وبإصراره علي استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ففضل عيسي الحفاظ علي حياته وحياة أبنائه والحصول علي مزايا مادية وعينية ولسان حاله يقول “ماذا نال عمي عبد الله من خروجه علي أبي جعفر سوي التشرد والضياع وخسران حياته في نهاية المطاف.
وضمن المنصور بعد تنازل عيسي بن موسي عن ولاية العهد أن تكون الخلافة في بيته وذريته إلي ماشاء الله .. لأن بقاء عيسي كولي عهد للمهدي لم يكن منطقيا لسببين، أولهما أن المهدي سيفكر في أولاده وليس في ابن عمه عيسي وثانيهما أن السن لم يكن ليسمح بأن يكون عيسي وليا لعهد المهدي خاصة أن عيسي كان يكبر المهدي بـ 23 سنة فكان في السادسة والخمسين من عمره عندما تولي المهدي الخلافة بعد أبيه.
ومثلما اشتري المنصور ولاية العهد من عيسي فعل المهدي نفس السيناريو واشتراها أيضا بعد ذلك مقابل 10 ملاين درهم وضياعاً بمديني الزاب وكسكر وقال عيسي بن موسي في ذلك:
خُيِّرْتُ أَمْريْنِ ضِاعَ الحَزْمُ بَيْنَهُما
إمَّا صَغارٌ وَإمَّا فْتِنَةٌ عَمَمُ
وَقَدْ هَمَمْتُ مِراراً أَنْ أُساقَيهُم
كَأْسَ المَنِيَّةِ لَوْلا اللهُ والَرَّحِمُ
وَلَوْ فَعَلْتُ لَزالَتْ عَنْهُمُ نِعَمٌ
بِكُفْرِ أَمْثالهِا تُسْتَنْزَلُ النِّقَمُ
أراد عيسي أن يقول من خلال هذه الأبيات أنه ضحي بمصلحته من أجل مصلحة البيت العباسي ودولة آبائه، وسواء كان ذلك حقيقة أو أن عيسي كان يداري عجزه عن الدخول في معركة غير متكافئة مع أصحاب القوة والسلطان، وهو الرجل الخبير المجرب الذي عرك الحياة وعركته، فإن الواقع الذي فرض نفسه أن صفحة عيسي بن موسي قد طويت بالفعل بعد أن تنازل أول مرة عن ولاية العهد في عهد عمه المنصور، رغم أنه كان من أهم أركان الدولة في بداية نشأتها.
وإذا كان أبو جعفر المنصور قد حقق مراده مبكرا ومهد الأرض تماما لولده محمد بعد الإطاحة بعيسي بن موسي، فإنه في نفس الوقت سن سنة سيئة بخلع الخليفة لولي عهده إذا أراد، وهو الأمر الذي أدي إلي كوارث وحروب، سنكشف النقاب عنها في الحلقات المقبلة إن شاء الله